الديكتاتور في متاهته

وزارة الإعلام 

 

بـسـام هاشـم

 

لم يبق من نظام “العدالة والتنمية” التركي إلا شخص أردوغان، ولم يبق من أردوغان الشخص إلا ذاك المثير للشفقة والسخرية. فالإخواني الطموح الذي شق طريقه إلى الحياة العامة بتزعم عصابة شوارع في اسطنبول، وتسلل إلى رئاسة بلديتها عبر قطع الطرقات، كما يليق بـأي “فتوة” في مدينة محافظة، تمكّن، وعلى ظهر رهانات استراتيجية شاملة جرى الإعداد لها في البنتاغون وأقبية الاستخبارات المركزية الأمريكية، من الوصول إلى زعامة ثاني أكبر حزب للإخوان المسلمين في الشرق الأوسط، والتنظيم السياسي “الواجهة” الذي علّقت عليه إدارة أوباما الأولى كل آمالها في إطار مشروعها لتطويق الإسلام السياسي الثوري، عبر الدفع بمتأسلمين سياسيين “معتدلين” إلى مقاليد السلطة في الشرق الأوسط، لتسجّل فيما بعد سابقة تسلّم أول إخواني لرئاسة الحكومة في “دولة إسلامية أطلسية”، ومن ثمّ تربعه على الحكم كرئيس ينشد مطلق الصلاحيات من خلال لعبة مداورة انتخابية، فيها من الاستبداد والتزوير قدر ما فيها من رياء وازدواجية غربية.
خلال ما يزيد قليلاً عن عقد من الزمن، لم يبق من الأنموذج السياسي التركي -أنموذج الإسلام السياسي التابع والمنضوي بوداعة مدهشة في المنظومة العسكرية والأمنية الغربية، والذي روّج له المحافظون الجدد الأمريكيون كـ “فيترينة” مستقبلية تعكس وهج طموحاتهم في المنطقة، وبكامل أبهتها وبهائها- سوى ذلك “السجان” الأوحد، الذي يختزل بخبله السياسي كل التخبّط الغربي في التعاطي مع شرق عربي متعب ومرهق إلى حدود العصيان وشق عصا الطاعة، مرة واحدة وإلى الأبد، على العنجهية الأمريكية، فلا “العمالة” الإخوانية التركية تجدي نفعاً لتؤخذ بمثابة قدوة، ولا العودة إلى العثمانية الجديدة تبدد أحقاد الماضي وتعيد كتابة التاريخ بصيغة وردية مزيّفة.
لم يبق من تركيا إلا أردوغانها .. مجرد جهاز حكومي ضخم وبيروقراطية عملاقة بات شغلها الوحيد هو أن تكنس ما يخلفه وراءه من “سوء فهم”، وترتّق له تصريحات “متعجّلة” كان ينبغي “ألا  تؤخذ على حرفية معناها”، خاصة وأنها ألقيت أمام بعض مسؤولي حركة حماس، وفي معرض مزايداته التي لم تنته بعد حول القضية الفلسطينية، وخاصة أيضاً أن مثل هكذا مهمة لم تعد ذات صلة بعد أن اختبر، بكل “تواضع” وأريحية، تجربة تقديم الاعتذارات الخطيّة، وباللغة الروسية، كتابة وقراءة.
لم يعد شخص، لا كرامة سياسية أو دبلوماسية له مثل أردوغان، يستحق أي رد، بل وحتى مجرد انتباه أو التفاتة. إنه يعيش خريفه السياسي، كما تعيش تركيا “العدالة والتنمية” أفولها. هو لا يذكّرنا في لحظة بائسة كهذه إلا بـ “عميد الدبلوماسية السعودية”، سعود الفيصل، في غابر الأزمنة، عندما كان الأخير يملأ الكاميرات ويحتل الشاشات ويشغل العناوين الرئيسية بتصريحاته، التي لا تثير الاهتمام إلا بهذياناتها وانقطاعاتها عن الواقع، رغم أن “الأمير” الراحل كان انغلاقياً ومتغطرساً، فيما موضوع هذه السطور، متزعم “داعش” في أنقرة، منافق ومدمن دجل من المرتبة الأولى.
لا يكاد أحد يصدّق كيف بمقدور طاغية خارج روح هذا العصر، ويسير عكس الزمن، أن يطيح بالنظام السياسي لدولة مجاورة، فيما مشاهد الهزيمة والاندحار اليومية لا تكاد تفارق ناظريه من بعشيقة في شمال العراق، مروراً بالرقة إلى الغرب، وليس انتهاء بمدينة الباب أو أحياء شرق حلب شمال سورية. ولا يكاد أحد يفسّر كيف لمثل هكذا أن ينتفخ بهذا الحجم من الطموحات فيما تتحوّل تركيا ذاتها إلى سجن كبير ومشروع دولة فاشلة تختنق برغبة الانتقام، ومهدّدة بوحدتها السياسية والجغرافية والمجتمعية. وقد يكون الأمر نوعاً من سياسة فاشلة للهروب إلى الأمام وتصدير أزمة داخلية، وقد يكون نوعاً من سلوك انعكاسي انتحاري، الغرض منه جلب الانتباه وطلب المساعدة في طريق الرجعة، ولكن الخسارة واقعة، وعلى المستويات كافة، أقلها، هذه المرة، أنه يجد نفسه مرغماً على الكشف عن حقيقة الاتفاقات والتفاهمات التي كان أبرمها مع الرئيس بوتين، وكان يريد لها أن تبقى قيد السرية والكتمان حتى إشعار آخر.
إنه الديكتاتور في متاهته السياسية والشخصية، وهي تركيا التي تنام على هاجس الانقلابات، التي قد لا تنتهي إلى الفشل دوماً.

 

2016-12-04