السوريون مدونو أقدم سيرة ذاتية لملك في العالم

وزارة الإعلام

توثق الرسوم الجدارية وقراءة النقوش الكتابية القديمة المكتشفة أن سورية هي أحد أقدم المراكز الحضارية في العالم التي اهتمت بتدوين التاريخ وتوثيق أحداثه وسبق السوريون في ذلك اليونان والرومان.
وفي سورية يظهر أقدم رسم جداري في العالم يصور مشهد تنصيب ملك وما رافق ذلك من طقوس واحتفالات اكتشف في مملكة ماري موقع تل الحريري حاليا وهو أول من دون سيرة ملك في تاريخ الشرق القديم على تمثال إدريمي ملك ألالاخ.
ويقول المؤرخ الدكتور محمود السيد قارئ النقوش الكتابية القديمة في المديرية العامة للآثار والمتاحف أن اختراع الكتابة شكل أهم حدث في النهضة الثقافية بالعالم القديم والتي بدأت مع اختراعها نهاية عصور ما قبل التاريخ وبداية العصر القديم وتوثيق الحدث وتأريخ الوقائع إذ تعتبر الكتابة رمزا من رموز الحضارة الإنسانية وأداة تدوين لتاريخها وثقافتها.
ويضيف السيد إن السوريين هم أول من رسم لوحة جدارية في العالم على حائط مبني من قبل الإنسان في موقع تل جعدة المغارة على الضفة اليسرى لنهر الفرات شمال سورية تنسب إلى العصر الحجري الحديث وتؤرخ بنحو 11 ألف سنة وفقا للنتائج المستخلصة من تحليل الكربون المشع ما يؤكد آثاريا أن ظهور العصر الحجري الحديث في شمال سورية قد سبق ظهوره في أوروبا وان أقدم رسم جداري في العالم يصور مشهد تنصيب ملك وهو الملك زمري ليم بمباركة الإلهة عشتار في مملكة ماري وينسب تاريخ الرسم إلى الفترة الواقعة ما بين 1820 و 1800 قبل الميلاد أي عصر البرونز الوسيط وتم التعرف من خلاله على مراسم تنصيب الملك وما يرافقها من طقوس وممارسات.
ويبين السيد أن تدوين السوريين لأقدم سيرة ملك في تاريخ الشرق القديم على تمثال إدريمي ملك ألالاخ لم يكن محض صدفة بل هو ثمرة التقدم الحضاري الذي دأب السوريون على إنجازه في العصور السابقة ولا سيما في ميدان الكتابة والتوثيق فهم مبتكرو أقدم نوع من أنواع الكتابة التصويرية في العالم عثر عليها في موقع تل الجرف الأحمر الأثري على الضفة اليسرى لنهر الفرات وحفرت على لوحة حجرية عليها شكل طائر وحيوانات وأفاع ولوحات أخرى حفر عليها أشكال قرون أو عيون أو خطوط مختزلة ودوائر وأشكال أفاع تشكل أقدم نوع من أنواع الكتابة التصويرية وأقدم نموذج للعد والإحصاء المدون على لوح حجري بواسطة أداة تشبه القلم وتنسب اللوحة الحجرية إلى عصر النيوليت ما قبل الفخاري ( أ ) ويمكن تأريخها في الفترة الواقعة ما بين 8700 و8500 سنة قبل الميلاد.
ولفت السيد إلى أن أدريمي هو ملك كنعاني حكم منطقة في شمال غرب سورية تدعى (موكيش) تقع عند مجرى نهر العاصي الأسفل قرب مدينة أنطاكيا وعاصمتها مدينة ألالاخ في الفترة الواقعة ما بين 1490-1500 أو 1450 – 1475 قبل الميلاد حيث عثر على تمثال إدريمي محطماً عام 1939 في معبد المدينة داخل حفرة في أرضية غرفة قرب المعبد في السوية الأثرية الأولى المؤرخة بنحو 1200 قبل الميلاد وهي الفترة التي دمرت فيها مدينة ألالاخ وكان تمثال إدريمي منصوباً في الأصل داخل المعبد على قاعدة من البازلت وهو يجلس على العرش وعليها نقش لطبعة قدم بطول 1 متر وهو منحوت من حجر أبيض مركب من الدولوميت والمغنزيت وفيه العينان والحاجبان منزلة من الحجر الأسود ويبلغ طوله نحو 104 سم وتوجد علامات دائرية واضحة على جانبي القدمين حيث نحت الملك بصورة رجل طاعن في السن ومتربع على عرشه والتمثال محفوظ حاليا في قسم مكتشفات المشرق القديم في المتحف البريطاني برقم متحفي 130738.
وأوضح السيد أن التمثال نقشت عليه كتابة أكادية مسمارية دونت بالخط المسماري البابلي الوسيط وتشغل الكتابة معظم واجهة التمثال الأمامية وحتى على لحيته وعلى حافة الخد الأيمن وتتألف من 104 أسطر وهي أول وأقدم سيرة ذاتية مدونة لملك في تاريخ الشرق القديم فيها سرد عن حياته وإنجازاته بالتفصيل.
ويعتبر النص الكتابي المدون على التمثال واحد من أهم مصادرنا الكتابية في فهم وتوثيق الأحداث التاريخية والعلاقات السياسية والحدود الجغرافية والسياسية التي كانت سائدة بين الممالك في شمال سورية في ذلك الوقت وهذا حسب السيد الذي بين أن النص ساعد في فهم طبيعة وأسباب الصراع العسكري والسياسي بين المملكة الميتانية والامبراطورية الحثية وانتقال مركزية الحكم من حلب إلى ألالاخ ويتحدث النص في قسمه الأول المؤلف من 91 سطرا عن أعمال إدريمي وإنجازاته بدءا من هروبه مع الأسرة المالكة إِلى أخواله في مملكة إيمار (مسكنة) مرفأ حلب على الفرات بعدما قامت ثورة ضد أبيه إليم إليما ملك حلب أطاحت بحكمه.
ويتابع السيد إن أدريمي اتجه بمفرده إلى الساحل السوري ونزل لاجئاً عند قبائل الخابيرو وبقي هناك سبع سنوات بعد ذلك عاد إلى شمال غرب سورية واستقر في مقاطعة موكيش بالقرب من جبل الأقرع وتمكن من إخضاع عدة مدن لسيطرته ثم أصبح ملكاً تابعاً للدولة الحورية الميتانية في ألالاخ بموجب عقد وقعه مع الملك الميتاني باراتارنا مع تمتعه بنوع من الاستقلال الذاتي في اتخاذ القرارات العسكرية والدبلوماسية الخاصة به شرط عدم التدخل في السياسة العامة للدولة الحورية الميتانية.
ويذكر السيد أن أدريمي وقع عقداً آخر مع ملك دولة كيزواتنا تم بموجبه تبادل اللاجئين بين الطرفين ومن عاصمته ألالاخ بسط إدريمي نفوذه على منطقة واسعة تمتد من الساحل السوري إلى حلب ومن كيزواتنا إلى مملكة اوجاريت إضافة إلى سهل الغاب وحكم مدة ثلاثين عاما مع الإشارة إلى أن ألالاخ تل العطشانة اليوم كانت عاصمة مملكة موكيش في عصر البرونز 3300- 1200 قبل الميلاد وعصر الحديد 1200-539 قبل الميلاد كانت تابعة في أغلب الوقت للمملكة الميتانية أو لمملكة يمحاد التي عاصمتها حلب.
وأوضح السيد أن أدريمي ضبط الوضع الداخلي لمملكته وقضى على العديد من المؤامرات الداخلية التي كانت تحاك ضد حكمه وقام بحملة غزو في المناطق المتاخمة لحدوده من الشمال جنوب شرق آسيا الصغرى وبنت السيرة الذاتية للملك إنجازاته بعد الحملة حيث جدد القصر الملكي وعمل على تنظيم العلاقات بين البدو واهتم بإصلاح الحصون الدفاعية وزيادة قوتها ومناعتها ووضع ترتيبات جديدة تخص الأعياد والشعائر وذكر في الأسطر 18 و19 على ذراعه اليمنى واحدة من أقدم الإشارات إلى أرض كنعان.
وبحسب السيد فإن القسم الثاني من النص من السطر 92 وحتى السطر 98 تحدث عن لعن كل من يحطم النقش أو يغير فيه فالتمثال والنقش تحت حماية الآلهة ضد أي تغيير أو أذى وفي القسم الثالث من النص نقرأ من السطر 98 ولغاية السطر 101 كلمات التبجيل والمباركة من الآلهة الموضوعة من قبل الكاتب شارووا ونقرأ في القسم الرابع من النص في السطر 102 المدون على الجانب الأيمن من كتف التمثال المدة التي حكمها إدريمي والبالغة 30 عاما.
وأشار السيد إلى أن السوريين كانوا أول من ابتكر الكتابة المسمارية الإبلائية ودونوا اقدم اتفاقية سلام في العالم تحرم القتل والاعتداء وتدعو إلى السلام اكتشفت في موقع تل مرديخ الأثري مملكة إبلا شمال غرب سورية ودونت بالنقوش المسمارية الإبلائية المحلية على رقيم فخاري عثر عليه في غرفة أرشيفات القصر الملكي ( ج ) في مملكة إبلا وينسب تاريخه إلى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد ومخترع أقدم أبجدية مسمارية ذات نظام قواعدي متكامل في العالم هي أبجدية أوغاريت المؤلفة من 30 إشارة أو رمزا مسماريا أبجديا شكلت القاعدة الأساسية في ظهور الأبجديات الفينيقية والآرامية والعبرية والنبطية والتدمرية والسريانية والعربية.
ما سبق يؤكد أن التاريخ مرآة الأمم وذاكرتها الحية وأداة اعتزازها وفخرها ومقياس حضارتها وتقدمها ويعكس ماضيها ويترجم حاضرها وتستلهم من خلاله مستقبلها فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها وهذا ما أدركه الشعب السوري صاحب الإنجازات الحضارية العالمية فكان من واجبه الاهتمام بتدوين التاريخ والحفاظ عليه وتوثيق أحداثه ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً بحيث يكون نبراساً وهادياً لهم في حاضرهم ومستقبلهم.

 

2016-10-12