هويتنا الموسيقية في عصر العولمة

ممالاشك فيه اننا في عصر العولمة ومابعدها، نفتقد الى الاحساس بالهوية والشعور بالانتماء الى ثقافتنا العربية الأصيلة، التي كانت موسيقانا العربية عبر تاريخها الطويل، أحد اهم روافدها الابداعية. ومبعث هذا الشعور هو عمق التحولات الذي ألّم بمفردات هذه الهوية منذ أن دخلت التقانات الوافدة قلب الحياة الموسيقية العربية، مما ادى الى تبديد عناصر الابداع المائزة في هذه الهوية، من اجل بعض المكاسب العابرة التي لم تستطع ان تحفر لها مسارا ابداعيا في تربة هذا الفن، لأن بعض الموسيقيين العرب تبنوا لغة التغريب عوضا عن التجديد، حيث جاءت النتائج كارثية على اكثر من صعيد.

_فمن ناحية لم يستطع هؤلاء المتغربون، في ان يجترحوا لغة موسيقية بديلة، للسائد المتسيد في المشهد المعاصر المعولم، بالرغم من منتوجهم المغاير المحمل بالعلوم والأدوات الغربية المعهودة، التي على أهميتها بقيت عاجزة وقاصرة عن ابداع نهضة موسيقية عربية حقيقية، تحقق الكثير من المطالب الروحية والوجدانية للمتلقي العربي، الذي تحيط به نتاجات هذه المنظومة واغلبها كماهو معلوم تجاري الطابع، لايحمل اية قيمة فنية وابداعية. ومن ناحية اخرى لم يستطع هؤلاء المولعون بموسيقى الآخر، من كسب وده ورضاه وذائقته التي تربت على تقاليد موسيقية عظيمة، وعلى تراث ابداعي متجذر في الذاكرة السمع بصرية، وهذا ماجعله حائرا مابين موسيقاه وتراثه الذي هجره طائعا، ومابين الاندماج في ثقافة القطيع التي تكرسها هذه المنظومة المؤدلجة، عبر لونها الموسيقي الوحيد الذي يعني بشكل او بآخر عمى ألوان، حيث تغيب باقي الألوان المشرقة في المشهد الموسيقي المعاصر، لأن الذائقة مصابة بعطب كبير على مستوى الادراك والاحساس بالجمال والتذوق الموسيقي السليم.وباتت مخدرة بمنتوج هذه النوعية الرديئة التي تجتاح العالم بعد صعود الصورة الحسية وتسليع الفنون وبالتالي انتشار غير مسبوق لمتاحف القبح الموسيقي الذي هو نتيجة طبيعية لحركات "الدادا" وتدمير الموسيقى كردة فعل على القواعد والأصول التي انبنى عليها هذا الفن الانساني العظيم. لكن هل يعني ذلك ان هذا الفن وصل الى طريق مسدود من ناحية الابداع والتعبير الجمالي؟ يسأل احدهم. ولعل جواب هذا السؤال يقودنا ايضا الى طرح اسئلة ملحاحة، حول غياب التربية الموسيقية والجمالية عن مجتمعاتنا العربية العتيدة، وبالتالي غياب او تغييب الدور والبعد الرسالي الانساني النبيل، الذي من المفروض ان يحمله اي نتاج موسيقي عربي معاصر يسعى الى أنسنة الحياة وتجميلها بالمقولات الذوقية والجمالية المنشودة، وإلا اصبح هذا الفن بمثابة مخدر ليس له اي دور تربوي او اخلاقي، إلا اللهو والتسلية ومزجاة الوقت ليس إلا. وهذا يعني بشكل او بآخر تخلي الموسيقي العربي عن دوره ورسالته الانسانية العالية في كتابة موسيقى عربية بديلة تعبر عن قضايا الوطن والانسان وتكون مبعث فرح وامل حقيقي في غدٍ عربي مشرق، تكون الموسيقى العربية فيه خير معبر عن نهضة الانسان العربي على كافة المستويات وبالتالي محاصرة التيار العبثي الاستهلاكي الذي تمادى كثيرا عبر منتوجه الحسي المنحط، بفعل عوامل سياسية واقتصادية معلومة، ولهذا لابد من القول والتأكيد على أهمية التجربة الموسيقية المعاصرة التي يتبناها هذا الموسيقي في سبيل خلق روح جديدة في الكتابة والممارسة تعيد الألق الى هويتنا الموسيقية المضيئة، وتمنح المتلقي العربي القدرة على التماس جوهر التجديد والحداثة، كمنطلق لحياة موسيقية عربية حقيقية تقول " لا" كبيرة للأذن الحسية المريضة و"لا" لتشويه روح الجمال والتعبير الوجداني، في منتوج الاستهلاك العابر الذي يعيث فسادا وانحطاطا في الذائقة العربية المستباحة.وهذا ما نأمله من الموسيقي العربي الذي يمتلك كل العوامل للسير بمشروع الحداثة النبيل الى خواتيمه المنشودة.

2019-02-26