بوتين في رسالته السنوية

بقلم: علي قاسم

لم تكن رسالة الرئيس بوتين السنوية إلى الجمعية الفدرالية الروسية مجرد تقليد سنوي اقتضته الأعراف المعمول بها، بقدر ما جاءت محملة برؤية استراتيجية تقدم روسيا من خلالها وجهة نظرها للعالم وللعلاقات الدولية وفق المعايير التي باتت ركناً أساسياً ومؤثراً من أركانها، ومساهماً فعلياً في ترجمتها.

اللافت أن الرسالة تضمنت كل ما يحتاجه القارئ السياسي من نقاط، وقدّمت إجابات مستفيضة عن الرؤية الروسية وأحكامها ونظرتها إلى التطورات السياسية، في مرحلة يشهد فيها العالم عاصفة من التغييرات الاستراتيجية، التي أملت حاجة ملحة لإعادة ضبط الإيقاع السياسي وفق مؤشرات عريضة تصلح كعناوين للمرحلة القادمة.

فروسيا 2019 وما يليها غير روسيا قبلها وقبل قبلها، بدليل أن الخبرة السياسية والعسكرية التي اكتسبتها كانت حاضرة بوضوح في رسالة الرئيس بوتين، وفي مقدمتها محاربة الإرهاب والمقاربة الروسية التي بدت الأكثر نضجاً، والأكثر مقدرة على محاكاة الواقع من خلال التجربة التي خاضتها في سورية، وتحاجج العالم فيها، وتقتضي فيما تقتضيه أن يأخذ بتلك الخلاصات التي انتهت إليها.

والمسألة الجوهرية في هذه الخلاصة تتحدد بمشهد الاتساق مع مبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي، وهي تستمد عوامل قوتها من هذه الميزة التي دفعت بروسيا ومعها الدول التي تشاطرها النظرة والقراءة السياسية للتفرد في هذا النهج، الذي يشكل بدوره الدعامة الحقيقية للحفاظ على الامن والسلم الدوليين، باعتبارهما مسؤولية تدرك روسيا أهميتهما والثمن الذي دفعته بسبب التمسك بهما.

ويمكن لهذا أن ينسحب على سائر المشهد الدولي وقضاياه الملحة، التي بدت فيه روسيا الضامن الحقيقي للشعوب المضطهدة، وللدول المتمسكة بسيادتها وقرارها المستقل، وهي تدرك سلفاً الثمن الباهظ الذي ستدفعه نتيجة ذلك، وقبلت به لأنه في نهاية المطاف كان أقل بكثير من الثمن الذي دفعته دول فرطت بسيادتها وتخلت عن قرارها، سواء كان برضاها أم نتيجة الهيمنة الأميركية والغربية، وحالة الاستلاب في المشهد الدولي.

قد يطول الحديث عن جوانب مختلفة قدمت الرسالة بعض عناوينها وتركت الباب مفتوحاً لسجالات في السياسة والقراءة والاستنتاج، لكنها بالمقابل حسمت الكثير من الجدل السياسي وغير السياسي في قضايا جوهرية.. واستراتيجيات أعمق وأكثر بعداً من مداولات اللحظة الراهنة، باعتبارها مقدمة تصلح لفهم حدود الممكن في السياسة ومساحة المتاح في الحوار، الذي أعيد فتحه على مصراعيه وأعيدت معه بارقة الأمل للخروج من نفق العسكرة، ومن الاستعصاءات في العلاقات الدولية وعنق الزجاجة الذي يتحكم بمخرجاتها حتى اللحظة.

فالإحاطة التي انطوت عليها الرسالة بدت أبعد من حدود المعتاد سياسياً، وهو أمر يسجل في صالح السياسة الروسية، التي أبدت حرصها على التوازن في العلاقات الدولية من بوابة التأكيد على المبادئ والحوار حتى في القضايا الخلافية، باعتباره طريقاً قويماً لمعالجة التشوهات الناتجة عن الهيمنة واستعراض القوة، والسجال الأميركي الممجوج الذي يروّج لسباق تسلح لن يكسب أحد منه، فيما خسائره ستضم لائحة يطول تعدادها، بما فيها الأميركيون قبل سواهم.

2019-02-21