الذكرى الثانية لرحيل فنان الشعب ... رفيق سبيعي


 

رفيق سبيعي أحد أعمدة الفن والدراما في سورية والوطن العربي. فهو فنان الشعب، المبدع فنياً وأخلاقياً وإنسانياً، والمحب لوطنه وفنه، والمحبوب من أبناء وطنه، والذي قدم الأعمال الكثيرة التي حفرت في ذاكرة الفن العربي عامة والسوري خاصة، ويعد من جيل المؤسسين الذين صدرّوا الدراما السورية إلى الدنيا.ويعتبره كثيرون أجمل من أدى دور كبير الحارة أو المختار أو الزعيم في المسلسلات الشامية، السوري الدمشقي رفيق سبيعي، الذي فارق الحياة في 5 كانون الثاني عام 2017 عن عمر 87 عاماً، قضى معظمها في عالم الفن.ولد رفيق سبيعي في 1 شباط عام 1930 في حي البزورية بدمشق القديمة، وهو ممثل ومطرب ومونولوجست منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، في عمر ثماني سنوات، بدأ رفيق سبيعي يحضر الموالد النبوية برفقة أخيه، وكثيراً ما كان ينسل راكضاً باتجاه المنشدين، مغنياً معهم التواشيح والأناشيد الدينية.في المنزل كان لا يحلو له مذاكرة دروسه إلا على صوت أسطوانات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكثيراً ما كانت تستدعيه والدته ليغني لنساء الجيران، حين يجتمعن في الدار مستمتعين بجمال صوته.كما كان يغني في أعراس حي البزورية الذي ولد وتربى به، كان حضوره لافتاً وهو يغني لكارم محمود وعبدالعزيز محمود وعبد الغني السيد، إضافة إلى براعته بأدراء منولوجات شكوكو وإسماعيل ياسين.بدأ بعدها سبيعي يصطدم بالمنظومة الفكرية التقليدية السائدة آنذاك والتي تنبذ الفنان وتعتبر الغناء شيئاً معيباً، ولم يكمل دراسته بعد الانتهاء من المرحلة الابتدائية وبدأ يعمل خياطاً ليساعد والده في تحمل أعباء ومصاريف المنزل.وعمل في الخياطة ثلاث سنوات لكنه فشل في هذه مهنة، فبدأ يشارك في نوادي الكشافة وظهرت مواهبه في الغناء والعزف والتمثيل، في المسرح وجسد مختلف الشخصيات في أعماله وترك بصمات متميزة في الحركة المسرحية، ولاحقاً في السينما والدراما السورية ليستحق وبكل جدارة لقب “فنان الشعب”.شبّ رفيق سبيعي على حلم الفن، متحدياً إرادة العائلة، وظنون المحيط، فلم يكن الأمر سهلاً في دمشق حينها، حيث كان يطلق على الممثلين لقب “المشخصاتي”، وكان يعتبر التمثيل عيباً اجتماعياً ما اضطره إلى البدء باسم فني هو “رفيق سليمان”.وبدأ سبيعي مسيرته الفنية أواخر الأربعينيات بتقديم مقاطع كوميدية مرتجلة على مسارح دمشق ونواديها الأهلية، ثم انتقل إلى الغناء والتمثيل في فرق فنية عدة كفرقة “علي العريس” و”سعد الدين بقدونس” و”عبد اللطيف فتحي” و”البيروتي” و”محمد علي عبدو”.وأسهم في تأسيس عدد من الفرق المسرحية الناشئة بعد الاستقلال عام 1946، حيث صنع شخصيته الأشهر “أبو صياح”، قبضاي الحارة الشامية بزيه الدمشقي الفلكلوري الأصيل.وبعد سنوات قليلة على بداية عمله المسرحي أواخر الأربعينيات وتقديمه عدد من الأدوار المرتجلة، كانت النقلة الفنية في عام 1956 مع تأسيس المسرح الحر الذي عمل فيه معظم رواد الحركة المسرحية السورية، حيث بدأ بتقديم مسرحيات كاملة إلى جانب فقرات غنائية اعتادت الفرق المسرحية على تقديمها في ذلك الزمان.ومن المسرحيات الأولى التي شارك فيها “بالمقلوب”، و”مرتي قمر صناعي”، و”طاسة الرعبة”، وشارك في مسرحية نالت شهرة ملحوظة في أواخر الخمسينيات هي مسرحية “صابر أفندي” 1958، من تأليف الراحل حكمت محسن.‏كما كان سبيعي من بين الفنانين السوريين المؤسسين للمسرح القومي في العام 1960، ومن أهم المسرحيات التي شارك فيها مع المسرح القومي “أبطال بلدنا” 1960، و”البورجوازي النبيل” 1962، و”الأشباح” 1962، “مدرسة الفضائح” 1963، و”الأخوة كارامازوف”، و”الاستثناء والقاعدة” 1964.وبعد غياب لسنوات عاد سبيعي إلى المسرح عام 1996 ليشارك في مسرحية “مات ثلاث مرات” بتوقيع المخرج حاتم علي، ثم في عام 2001 شارك في مسرحية “شو هالحكي” من إعداد وإخراج كل من سيف الدين السبيعي ونضال سيجري وجلال شموط عن نص لزكريا تامر.

في التلفزيون، كانت بداية ظهور رفيق سبيعي في مسلسل “مطعم السعادة” عام 1960 مع عدة فنانين منهم دريد لحام ونهاد قلعي وتوالت أعماله بعدها، ثم في “مقالب غوار” و”حمام الهنا”، وكانت شخصية “أبو صياح” أيضاً صاحب الحمام الذي يعمل فيه غوار وتدور فيه القصص والحكايات.
وبما يملكه من كاريزما “الزكرت الشامي”، كان دور “الزعيم” في مسلسل “أيام شامية”، أحد أشهر مسلسلات البيئة الشامية عام 1992، فاتحة لتصدر أدوار الزعامة في معظم المسلسلات التي تنتمي إلى هذا النوع من الأعمال.
وتواصلت أعمال رفيق سبيعي فتألق في مسلسلات حفرت عميقاً في الذاكرة، منها “الخشخاش” 1991، و”دمشق يا بسمة الحزن” 1993، و”العبابيد” 1996، و”مبروك” 2001، و”صقر قريش” 2002″، و”مرزوق على جميع الجبهات” 2004، و”ليالي الصالحية” 2004، و”الحصرم الشامي” 2007″، و”أهل الراية” 2008.
واستمرت مسيرة رفيق سبيعي مع الدراما التلفزيونية، لسنوات طويلة، قدم خلالها عشرات الأدوار، كان آخرها مشاركته بمسلسل “حرائر” عام 2015″.
وحاول رفيق سبيعي تقديم أدوارٍ يؤكد فيها حضوره كممثل بعيداً عن صورة “أبو صياح”، وتمكن من ذلك بنجاح عبر تقديمه لشخصية “طوطح” اليهودي في مسلسل “طالع الفضة” عام 2011، من إخراج نجله سيف الدين سبيعي.
واعتبر سبيعي النجل حينها أن والده أعاد اكتشاف نفسه وهو على مشارف الثمانين عاماً، وبدا الأب متفقاً مع ابنه في وجهة نظره، حيث قال “طوطح أبرز طاقة بداخلي ربما لم تكن مرئية بالنسبة للجمهور، وأثبت للمشاهدين بأن لدي قدرات كممثل تفوق ما شاهدوه في أدائي من قبل”، وفقا لما نقلته عنه مواقع فنية.
وفي السينما، قدم رفيق سبيعي ما يزيد عن الخمسين فيلماً، أخرها “سوريون” عام 2015، ومن أبرز مشاركاته السينمائية، دوريه في فيلمي السيدة فيروز الشهيرين “سفربلك” و”بنت الحارس”.
كما شارك في أفلام سورية أهمها “أحلام المدينة” و”الليل” للمخرج محمد ملص بدور شكري القوتلي، وفيلم “الشمس في يوم غائم” للمخرج محمد شاهين، إضافة إلى فيلم “الليل الطويل” لمخرجه حاتم علي، وفيلم “صندوق الدنيا” للمخرج أسامة محمد.
إلى جانب الأدوار التي أداها في موجة الأفلام التجارية خلال سبعينيات القرن العشرين منها عملية الساعة السادسة (1966)، عنتر يغزو الصحراء (1969)، أيام في لندن (1976)، ذكرى ليلة حب (1973)، فتاة شرقية (1985)، زواج على الطريقة المحلية، غرام في إسطنبول.
كما أبدع “الزعيم” رفيق سبيعي في فن المونولوج على مستوى العالم العربي، حيث كان فناً حديثاً قياساً لتلك الفترة لم يبرع فيه الكثيرون كبراعة السبيعي، ففي عام 1962 ظهر سبيعي في برنامج “نهوند” التمثيلي بشخصية شعبية “سعدو حنّي كفك”، وقدم أغنية بعنوان “حبك بقلبي دوم ساكن مطرحو”.
وشارك عبر أثير إذاعة دمشق في برنامج للأغاني الضاحكة بشخصية “أبو صياح”، ليقدم أغنية “داعيكم أبو صياح معدل ع التمام”، وفي عام 1963 قدّم أغنيته الشهيرة “يا ولد لفلك شال” في برنامج “7×7”.
ثم توالت الأغنيات التي نالت حظها من الشهرة مثل “تمام تمام هدا الكلام”، و”شروال أبو صياح”، و”لا تدور ع المال”، و”حبوباتي التلموذات”، و”شيش بيش”، و”قعود تحبك”، و”الحب تلت لوان”، و”الخنافس” وغيرها.
ولم يتخل سبيعي طيلة الوقت عن فن المونولوج الذي واكب من خلاله تطورات حياة الناس، ودخول الأزياء والموضات إلى يوميات الشبان والشابات، وكانت الكلمات الساخرة هي المفتاح كما في أغنية “شرم برم كعب الفنجان” التي تناول فيها الشباب.
أما في الغناء فقد أدى خلال مسيرته أغنياتٍ أعدت خصيصاً للسينما كـ “زحليقة وتلج”، “ليش هيك صار معنا”، و”الأوتو ستوب”، وفي منتصف عام 2016 أطلق أغنية جديدة بعنوان “لا تزعلي يا شام”، من كلمات وألحان سهيل عرفة.
أما إذاعياً، بدأ الراحل عمله الإذاعي في خمسينيات القرن الماضي، وقدم خلال مسيرته الطويلة كممثل ومخرج مئات البرامج والمسلسلات الإذاعية، وكان أحد أبرز الأصوات الحاضرة في مسلسلات إذاعة دمشق، وبرامجها.
وسيبقى في الذاكرة طويلاً برنامجه الشهير “حكواتي الفن”، الذي روى فيه لأكثر من 12 عاماً بعضاً من أسرار الفن السوري والعربي وكواليسه وذكرياته، وجملته الشهيرة فيه “أحبابي ونور عيوني” كان يرددها كل حلقة في مخاطبته لجمهوره.
وكان رفيق سبيعي أول من قدم كتاب “حوادث دمشق اليومية” لـ “البديري الحلاق”، الذي يؤرخ لأواخر فترة الاحتلال العثماني لبلاد الشام، ولفت أنظار الدراميين له فاستوحوا منه فيما بعد قصص العديد مما عرف لاحقاً بأعمال البيئة الشامية.
وبدأت قصة رفيق سبيعي مع “أبو صياح” كما يروي في إحدى مقابلاته “أول مرة قدمتها عن طريق المصادفة، حين أراد الفنان أنور المرابط أن يتغيب عن أداء فصل كوميدي يلعب فيه دور العتال في إحدى مسرحيات الراحل عبد اللطيف فتحي، كنتُ أعمل وقتها ملقماً في مسرحه، لم أنم ليلتها من الفرحة”.
وتابع، بحسب ما نقلت مواقع فنية، “واعتبرت هذا الدور نوعاً من الامتحان يمهد لي الطريق كممثل، استعرت الشروال وباقي الاكسسورات، ففوجئ بي فتحي عندما رآني على المسرح، وجسدت الشخصية على طبيعتها كما تبدو في الحياة”.
وأردف سبيعي “وقتها، شاهد أدائي المرحوم حكمت محسن، وتنبأ لي بالنجومية منذ ذلك الحين، كان ذلك أواخر خمسينيات القرن الماضي، في عمل مسرحي مقتبس عن مسرحية مصرية للكاتب أبو السعود الإبياري نقلها عبد اللطيف فتحي إلى الشامية، قدمت على أحد مسارح دمشق”.
وأسس سبيعي عائلة فنية تألفت من أربعة من أبنائه، أولهم الراحل عامر سبيعي، الذي توفي قبل ثلاثة أعوام، وسيف الدين سبيعي الممثل والمخرج، وابنته هبة التي خاضت تجربة التمثيل مرة واحدة في فيلم “سوريون” للمخرج باسل الخطيب، بينما ظهرت شقيقتها صبا في مسلسل “حرائر” مع المخرج نفسه.
وأما عن لقب “فنان الشعب” فهو اللقب الفريد الذي منح لرفيق سبيعي من قبل الرئيس الراحل حافظ الأسد، ليتابع بعدها سبيعي إبداعاته التي لاقت تكريمات عدة كان أهمها “وسام الاستحقاق” من الدرجة الممتازة الذي منحه إياه الرئيس بشار الأسد في عام 2008.
إضافة إلى تكريمه بوسام “نوط الفداء” الذي منحته إياه منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964، كما حصل على جائزة “أدونيا” عن مجمل أعماله عام 2008، ومنحه الحزب السوري القومي الاجتماعي وسام الصداقة في عام 2014، وفاز بجائزة أورنينا الذهبية في مهرجان الأغنية السورية السنوي.
ورحل فنان الشعب بعد تلك المسيرة الفنية الحافلة والشاملة موصياً السوريين ببلدهم خيراً.

2019-01-07