بين جنيف ومنبج

 بقلم : علي قاسم
لم يشفع للمبعوث الأممي حديثه عن بعض «التفاهمات» لإضفاء التفاؤل أو لإسكات المخاوف التي حضرت اجتماع جنيف التنسيقي للدول الضامنة، ولم تنفع الأجواء التي سبقت الاجتماع في إخفاء الهواجس التي يثيرها الدور التركي في رقعة تتبدل فيها الاصطفافات السياسية للنظام التركي وفق حسابات أطماعه وأوهامه،

حيث تتناوب على إشغال الحديث إعلامياً وسياسياً وسط متاهة الحديث عن الخطوة اللاحقة التي تستدعي كل هذا التشويش السياسي والميداني، في ظل عدوان أميركي لا تزال تداعياته تتفاعل، وتشي بالمزيد من السخونة والتصعيد على جبهات مفتوحة، ما دفع بالروسي إلى التحذير مما هو أبعد من ذلك.‏

فالتوغل التركي الأميركي المنسق في محيط مدينة منبج أرخى بظلال من الشك والريبة في النيات المبيتة لمنظومة متكاملة من العدوان، وتشكل في جوهرها محاولة تعويض فاشلة للعجز الأميركي التركي المشترك من إنقاذ المشروع الإرهابي، ويحمل في طياته منسوباً مرتفعاً من الحالة العدوانية التي تهدد بدفع المنطقة نحو تطور هو الأخطر، وتهدد بشكل مباشر مسار آستنة وكل ما تمّ إنجازه، حيث الرسائل فيها تتخطى المشاهد التقليدية المعتادة، وخصوصاً حين يكون الحضور العدواني الأميركي التركي مباشراً وبديلاً من الوكيل، بعد أن وصل هذا المشروع برمته إلى حائط مسدود، بينما المرتزقة وبقايا التنظيمات الإرهابية كانت أكثر عجزاً.‏

وجاء التوقيت عن الاتفاق الأميركي التركي والتوافق على التوغل العدواني غير بريء، بدليل أن الأنظار التي كانت تتطلع إلى اجتماع جنيف التنسيقي وجدت في هذا التزامن رسالة أكثر وضوحاً مما سبقها، وربما كانت رصاصة مسبقة من التركي على مسار آستنة برمته، حيث الخلافات التي تفجرت في الاجتماع كانت مدروسة ومنسقة مع الأميركي، حيث أخرج التركي ما راكمه من أفخاخ ليطلق بعضها، بعد أن قدم له الأميركي ما كان يجاهر به من رغبات مشبوهة في التنسيق بأي ثمن.‏

هذا التزامن ليس وليد اللحظة، ولا هو نتاج موقف فرضته النقاشات الدائرة في جنيف، بقدر ما كان دوراً آخر مرسوماً للتركي، لعبه حتى اللحظة الأخيرة من خلال الإصرار على دور مرتزقته بالاتفاق الكامل مع الأميركي، ولم يتردد في نهاية المطاف من إعلان الاختلاف، والخلاف لم يكن موضوع تشكيل لجنة مناقشة بالدستور الحالي إلا رأس جبل الجليد الذي سيكشف من خلفه ما تراكم من خطط أميركية تركية جرت المساومة عليها عبر سنوات الحرب الإرهابية على سورية، وما كان يجري تصديره من خلافات لم يكن إلا بقصد التضليل والتستر على التفاهمات التي رسمتها التحالفات الأميركية التركية.‏

منذ البداية كانت الشكوك حول الدور التركي قائمة ومثبتة في قوائم المخاطر التي تحدق بعملية آستنة، وتراكمت عبر سلسلة طويلة من التجارب التي جرت كاختبار عملي لنيات التركي، حيث كانت القناعة بأنه لا يمكن له أن يكون ضامناً، وهو يحتاج إلى من يضمنه في الالتزام بأي مخرجات، قد تنتج بحكم العلاقة مع الناتو التي تفرض شروطها، وكان من الواضح أنه لا يمكن لتركيا أن تكون غير ذلك حتى لو أرادت، وأضيف إليها تراكمات النظام التركي وسلوكياته المتبدلة، الذي كان يمسي على غير ما يصبح، والأخطر أنها كانت وستبقى جزءاً من المشكلة، ومن الصعب بل العسير أن تصبح بأي حال من الأحوال جزءاً من أي حل يمكن أن ينتج من آستنة أو سواها.‏

ما خرج من مواقف تركية تحاول أن تبني على حاجة الآخرين لها وفق بعض الأوهام التي زرعها النظام التركي عبر السنوات الماضية، وإن هذه الحاجة تزداد كلما كان الاشتباك السياسي في أوجه، وترسخت هذه الاستنتاجات لدى البعض مع مرور الزمن وتوالي الأحداث التي باتت أهم عامل من عوامل المراوغة التركية، حيث استغل اللعب على حبال الحاجة تلك رغم ما ثبت من وقائع قاطعة على الدور المشبوه لرأس النظام التركي الذي كان يعلو صوته كلما ازداد نفاقه.‏

التناغم الأميركي التركي وما ينتج عنه من تفاهمات آنية لن يغير في الواقع أمام تطورات ميدانية، تبدو حتى اللحظة هي الوحيدة المخولة برسم إحداثيات التطورات واتجاهها، وسواء كان هذا الخلاف بمنزلة قصف تمهيدي قد ينزلق إلى ما هو أبعد من ذلك، أم توقف عند هذه النقطة، فإن المقاربة الحقيقية تبقى رهناً بما تؤول إليه المواجهة الميدانية، بينما المشهد السياسي مجرد انعكاس لمحاولات لم تنقطع ولن تنقطع، للتعويض عن فشل مشروع الإرهاب المفلس، وإعادة تشكيل يائسة لمشروع المرتزقة الذي تؤشر معطياته إلى إفلاسٍ يسبق انطلاقته وعجزٍ يتفوق على طاقة التركي والأميركي، وحضورهما المباشر بالعدوان بداية النهاية الحتمية، لكل محتل عبر التاريخ..!!‏

 

2018-06-21