ترامب والاتفاق النووي مع إيران: "جحا ما بيقدر إلا على خالته"!

بقلم :فراس عزيز ديب

 

هل أتاكم المثل الشعبي الشهير "جحا ما بيقدر إلا على خالته"، مثلٌ يبدو أنه يوصِّف الحال التي وصل إليها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع اعتذارنا من شخصية "جحا" التي خضعت مثلها مثل غيرها لعملياتِ تضليلٍ إعلامي عبر قرون لدرجةِ وصفها بالغباء أو الزندقة، لكنها في حقيقة الأمر كانت شخصيات في قمةِ الذكاء.

أن تعلنَ الولايات المتحدة الأميركية انسحابها من منظمةٍ دوليٍة تُعنى بالثقافةِ والتعليم لا أكثر أي من "اليونسكو"، أياً كانت مسوغات الانسحاب، فهو حدثٌ وإن أثبتَ إلى أي حدٍّ وصل جنون هذا "الجحا"، لكنه يثبت أن العالم يمكن أن يستمر من دون سطوة الولايات المتحدة ودورها "القيادي" كما تدّعي، ولعل هذا ما عناه المندوب الروسي الدائم لدى الاتحاد الأوروبي فلاديمير تشيجوف عندما علق على قرار الانسحاب بالقول: إن هذا القرار "لن يضر بهيبة المنظمة الدولية" تحديداً أن مسلسل الانسحابات الأميركي مستمر، بدؤوه باتفاقية "باريس للمناخ"، ولا يبدو أنهم سينهونه بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، تحديداً أن الموقف من هذا الأخير بدا وكأنهُ تجاوز الخطوط الحمراء بما يتعلق بهيبةِ أي دولةٍ أو حتى احترامها لنفسها، فكيف ذلك؟

جرت العادة تحديداً بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني أنه عند خروج أي تصريحٍ ظاهره كباطنهِ تهديد لإيران، فإن الرد كان يأتيِ عادةً من الإيرانيين وحلفائهم، لكن ما ميز الموقف الأميركي الأخير من الاتفاق أن الرد عليهِ جاء من حلفاء أميركا بشكلٍ أقوى من حلفاء إيران، وهذا الأمر ربما يعكس حجم الشرخ الذي أحدثته رعونة ترامب في تعاطيهِ مع الأمور الجوهرية العالقة، تحديداً أنه مع كل تصريحٍ متعلق بملف ما من الملفات المفصلية في جوهر السياسة الأميركية كان يتعاطى بتصريحاتٍ ذاتَ سقفٍ مرتفع، وهو يُخالف أدنى مفاهيم «فن التعاطي بالسياسة» والمفارقة بسيطة: في السياسة عليك أن تميز بين التفاوض مع العدو على حلولٍ لمشاكلَ عالقة وبين تهديدك للعدو كنتيجةٍ للمشاكل العالقة.

في التفاوض يبدو منطقياً أن تبدأ بشروطٍ ذات سقوفٍ مرتفعة لكي تترك لنفسك هامش تحركٍ بطريقة لا تبدو فيها وكأنك تقدِّم تنازلات، بل بأسوأ الظروف أن تخرج من مبدأ "لا فائز ولا خاسر"، أما ما يتعلق بالتهديد فالقضية مختلفة تماماً لأن تكرارك للتهديدات بسقوفٍ مرتفعة ثم العودة متقهقراً أشبه بما قلناه يوماً بأنه "الإفراط بالجد الذي يجلب الملل"، وهو ما يصيب هيبة الدولة بمقتل أياً كانت الدولة وأياً كانت عظمتها، وهذا ما يحدث مع الولايات المتحدة تحديداً خلال الأشهر القليلة التي حكم فيها ترامب، لكن ما الذي دفعه فجأة لرفع السقف بهذه الدرجة؟

يبدو الاحتمال الأول وكأن ترامب لديه الرغبة باستعادةِ هيبةِ أميركا وإعادة تذكير المبشرين بأفولِ عظمتها قوة وحيدة في هذا العالم، تعاقب من تشاء وتشن الحروب متى تشاء، لكن عليهِ أن يعي أن الهيبة لا تأتي بـ"الجعير"، بل إن الصمت أحياناً قد يكون هو الهيبة، فما بالنا بالصراخ غير المقرون بالأفعال.

أما الاحتمال الثاني وهو ربما كرره البعض لدرجة "السذاجة" بأن ترامب هو أداة بيد إسرائيل والسعودية ومن الطبيعي أن يلبي ما يشاؤون، لكن هذا التحليل لا يبدو مقنعاً تحديداً أن الأمر هنا متعلق مباشرةً بالأمن القومي الأميركي، والقضية ليست بيده وحده لأنه بالنهاية سيلجأ للكونغرس ضد أي خيارٍ محتمل، بل على العكس قد يكون سعيه لرد الاتهامات بأنه "صنيعة روسية" أكثر عقلانية من سابقه، تحديداً أن هذا التصعيد تزامن مع استدعاء كبير موظفي البيت الأبيض السابق رينس بريبوس أمام لجنة تحقيق تنظر في الاتهامات المتعلقة بالتدخل الروسي في الانتخابات.

أما الاحتمال الثالث فقد يكون رغبة ترامب في إزاحة الملف الكوري الديمقراطي عن الواجهة، تحديداً أن سقف تهديداته بما يتعلق بهذا الملف تجاوزت مثيلاتها في الشق الإيراني، فهو توعد مثلاً قبل أسبوع بـ«العاصفة التي تلي الهدوء» لكننا لم نجد عاصفة ولا حتى صاعقة صغيرة، فأراد الهروب من هذا الملف عبر إعادة طرح الملف النووي الإيراني، لأن هروباً كهذا بحاجةٍ لملف أكثر ليونة ليستطيع أن يطبق عليهِ تهديداته، لكن حتى هذه الفرضية لا تبدو عقلانية لأن الملف الكوري الديمقراطي لم يُسحب من التداول بهذه الطريقة بل سيعود في الأسبوع القادم بشكلٍ أكثر ضراوة لأن بيونغ يانغ هددت بإطلاق صاروخ باليستي جديد قادر على ضرب الأراضي الأميركية بشكلٍ متزامنٍ مع المناورات الكورية الأميركية المشتركة بعد أيام، أي إن الحرج "الترامبي" سيكون مضاعفاً.

من ناحيةٍ ثانية فإن حلفاء ترامب أساساً كانوا صريحين بأن المساس بجوهر الاتفاق ممنوع، بل أن العواصم الغربية سارعت للتغني كلاً على حدة بعظمة إنجازهم "الدبلوماسي" بهذا الاتفاق التاريخي، أي إن ترامب فيما يبدو نسي أن هذا الاتفاق ليس بين دولتين ليمتلك خيارات الانسحاب منه إلا إن كنا مستقبلاً سنشهد انسحاباً أميركياً من منظمة الأمم المتحدة بذريعة أنها لم تؤمن الحماية الكافية لإسرائيل من خلال هذا الاتفاق.

يبقى الاحتمال الرابع، وهو الذي يبدو أكثر عقلانية، أن القضية تبدو تداخلاً سياسياً واقتصادياً هما ما دفعا ترامب نحو حافة الجنون، ففي الشق السياسي ظن الأميركيون أنفسهم وقد سلَّفوا الإيرانيين خطوة للأمام نحو التطبيع الشامل الذي سيخلق اتفاقيات في مجالاتٍ كثيرة أهمها الشق الاقتصادي، لكن هذا الأمر لم يحدث إذ بقيت الولايات المتحدة بالنسبة للإيرانيين "الشيطان الأكبر" وهذا الأمر قد لا ينفع معه مفاوضات ولا معاهدات لأنه أمر "عقائدي" قد يصل لمرحلةٍ ربما لا يميز فيها التوجه الإيراني بين الشعب الأميركي والإدارة الأميركية بل يتعاطى معها كسلةٍ واحدة.

لكن بالمطلق إن اختلفنا أو اتفقنا مع هذه النظرة لكل ما هو أميركي، فإن الأميركيين استيقظوا ليجدوا أنفسهم اقتصادياً أكبر الخاسرين، بينما باقي حلفائهم أكبر الرابحين، تحديداً أن إيران لكونها حوصرت لعقود فهي بحاجةٍ للكثير من الاستثمارات، هل لنا مثلاً أن نفكر ماذا لو كانت صفقة شراء إيران لـ"100 طائرة ايرباص" أوروبية ذهبت لمنافستها "بوينغ" الأميركية!؟ فهل أراد ترامب أن يقول للإيرانيين: إن عليكم من الآن أن "تلعبوا مع الشيطان"؟ ربما هو كذلك تحديداً أن موقف الرجل من الاتفاق النووي ليس بجديد بل هو يكرره قبل ظهوره كمرشح رئاسي محتمل، وعليه ماذا ينتظرنا؟

لم يكن مستغرباً أن يتغنى إعلام "آل سعود" والإعلام الإسرائيلي بخطاب ترامب، فكلاهما صورة عن توجهٍ واحد، بل إن بيان الخارجية السعودية بدا وكأنه جاهز، لكن إن افترضنا أن الإسرائيلي يعيش مأزق الغريق الذي يتعلق بالقشة، فإن على السعودي أن يدرك أنه ما زال يملك فرصاً لتقديم نفسه بشكلٍ يجنح فيه للسلم لا للتصعيد المذهبي، لأن ترامب لن يقدم لهم شيئاً، وأن إلغاء الاتفاق إن تم فهو للإيرانيين أكثر منفعة، فهم سيظهرون مصداقيتهم بالالتزام لكنهم كانوا ضحايا للديكتاتورية الترامبية، مع التأكيد أن إعادة فرض هكذا عقوبات من جديد في مجلس الأمن سيبدو أمراً مستحيلاً ليس فقط بسبب انطلاق الاستثمارات الأوروبية في إيران، بل لأن الروسي والصيني هذه المرة سيتسلحان بالفيتو من مصدر قوة، أما ترامب فإن ما سيسعى إليه قاله بشكلٍ مباشرٍ أي أمن إسرائيل، وهذا الأمن لا يمكن تحقيقه بتعليق الاتفاق النووي الإيراني أو حتى تعديله لأن تعديله أشبه بإلغائه.

ما سيسعى إليه ترامب الآن ينطلق بمنحيين الأول مقايضة الاتفاق بمكاسب اقتصادية تبدو بعيدة المنال، أو مقايضة الاتفاق باتفاقية منفصلة تضمن أمن إسرائيل صراحةً كبديلٍ لفشل تحقيق المكاسب الاقتصادية، وهو توجه يبدو مغلقاً أكثر من سابقهِ تحديداً أن ترامب لا يمتلك أسلحة سياسية لفرضه، فالعقوبات لا تنفع والحرس الثوري الإيراني أساساً هو منظمة "إرهابية" من وجهة النظر الأميركية وفرض الأمر في مجلس الأمن مستحيل، فهل يكون الخيار هو الحرب؟

ربما إن العزلة التي تعيشها إسرائيل حالياً يجعلان منها أكثر جرأة على اتخاذ قرار كهذا من الأميركي، فالأميركي ولو سار رويداً نحو العزلة، لكنه بكل الأحوال أذكى من الوقوع بهكذا فخ، وبمعنى آخر فإن تصريحات ترامب ستبقى كالجبل الذي تمخضَ فولدَ فاراً، والكرة الآن في ملعب الكونغرس لأنه أمام خيارين إما أن ينقذ هيبة أميركا سلمياً ويوقف هذا الأرعن، أو ينقذها بتأكيد عدم أهلية هذا الترامب لقيادة أميركا، وتحديداً فإن جل ما يمكن أن يقوم به هي العودة لابتزاز مشيخات النفط مالياً، أو انسحاباً من منظمةٍ دولية ما، ألم نقل لكم إن "جحا ما بيقدر إلا على خالته".

 

2017-10-15